الزلزال الممنهج في علم السياسة هو التغيير الجذري والمخطَّط له في النظم السياسية والعسكرية والاقتصادية القائمة لدولة أو منطقة معيّنة. وهو حالة جديدة تظهر إلى العلن نتيجة أزمة تمّ التخطيط لها بشكلٍ مفتعل، مفاجئ، وواسع النطاق، بهدف هزّ كيان الدول والمؤسّسات والتوازنات المحلّية والإقليمية، لكن بطريقة مدروسة ومقصودة. فهل كانت تركيا تخشى من زلزال ممنهج؟
في ظلّ التسارع المتزايد للأحداث في الإقليم، وتصاعد التوتّرات على أكثر من جبهة، تجد تركيا نفسها أمام مشهد معقّد يعيد إلى الواجهة هواجسها القديمة من التعرّض لـ”زلزال ممنهج” جديد، تهتزّ معه ركائز سياستها الخارجية ومصالحها الحيوية، سواء مع الغرب أو مع دول الجوار.
ترى القيادات التركية أنّ من حقّ إيران الدفاع عن نفسها والردّ على الاعتداءات التي تقع خارج أيّ إطار قانوني أو مؤسّسيّ دوليّ. كما أنّ تحريك الولايات المتّحدة لطائراتها لضرب العمق الإيراني، بعد ساعات فقط من البيان الختامي لدول العالم الإسلامي في إسطنبول، مسألة لا يمكن تجاهلها.
القلق من اتّساع نطاق التّحدّيات
لا يتعلّق القلق التركي بحجم التحدّيات فحسب، بل بطبيعتها واتّساع نطاقها. فأنقرة، قبل إعلان وقف النار، ومثل غيرها من العواصم، كانت تتهيّأ لعدّة سيناريوهات، أهمّها احتمال حصول تصعيد يوسّع رقعة المواجهة بين تل أبيب وطهران ويمتدّ إلى جبهات تمسّ الأمن التركي بشكل مباشر. هذا إلى جانب الضغوطات الأميركية الأطلسيّة المتزايدة التي تواجهها أنقرة بهدف إلزامها بعدم الخروج عن التعهّدات والاتّفاقات الموقّعة مع الغرب، ودعوتها إلى تجاهل التحوّلات المقلقة في موازين القوى الإقليمية، مع صعود الدور الإسرائيلي الذي قد يغيّر قواعد اللعبة التقليدية.
خيّبت واشنطن رهان موسكو على فتح “علبة باندورا” جديدة في الإقليم بعد استهداف المقاتلات الأميركية لمراكز الطاقة النووية. فبعد ساعات من الردّ الإيراني ضدّ القاعدة العسكرية الأميركية في قطر، شكر الرئيس الأميركي دونالد ترامب طهران على إبلاغها بخطّة الهجوم قبل موعدها. ثمّ أعلن قرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران بشكل مبرمج ومتدرّج.
قد تصمد هذه الخطوة أو قد تفشل. لكنّ أنقرة مثل غيرها من العواصم باتت تقرأ ما يجري على أنّه محاولة لإعادة رسم التوازنات بطريقة لا تخدم موقعها أو مصالحها، بل قد تدفعها إلى القبول بالأمر الواقع الذي قد تفرضه تفاهمات إسرائيلية – إيرانية بقرار أميركي يؤدّي إلى إعادة تموضع قسريّ لا تملك فيه أوراق القرار أو مساحة الخيار.
من هنا، تبدو أنقرة اليوم في حالة “تيقّظ استراتيجيّ”، تراقب وتعيد تقويم أولويّاتها، وهي تدرك خطورة مرحلة ما بعد دخول أميركا ساحة اللعب بشكل مباشر، بهدف إعادة توزيع الأدوار وتقسيم النفوذ.
حراك استراتيجيّ
بناءً عليه، تستعدّ أنقرة لحراك داخلي وخارجي ذي طابع استراتيجيّ جديد يتماشى مع المتغيّرات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وتتبلور الخطوط العريضة لهذا الحراك في:
– مراجعة سياسة التسلّح الوطني وسدّ الفراغ الحاصل في منظومتها الصاروخيّة وسلاح الطيران الحربي. ستبحث ذلك مع حلفاء وشركاء في الغرب، لكنّها لن تتريّث مطوّلاً للحصول على احتياجاتها التي قد تفاجىء وتصدم البعض من خلال صفقات محتملة مع روسيا والصين وباكستان.
– وضع خطط عسكرية وأمنيّة واستخباريّة جديدة باتّجاه حماية أمنها القومي ومصالحها في الخارج في ضوء الأسلحة والأساليب التي ظهرت إلى العلن أخيراً في المواجهات الحربية.
– قطع الطريق على أي مشروع غربي أو أطلسي يلزم تركيا بعقود أو تفاهمات مع الجانب الإسرائيلي ويحوّل أنقرة إلى شريك لتل أبيب في عملياتها العسكرية وخططها في الإقليم.
– الانتقال من معادلة “تركيا بلا إرهاب”، التي اعتمدها “تحالف الجمهور” الحاكم في الأشهر الأخيرة، إلى معادلة “إقليم بلا إرهاب” تقوم على استراتيجية سياسيّة وأمنيّة إقليميّة جديدة بالتنسيق مع العواصم الفاعلة في المنطقة، ويكون موضوع إبعاد المنطقة عن الأسلحة النووية في مقدَّم أهداف هذا الحراك.
إردوغان إلى جولة عربيّة
من أجل ذلك، من المتوقّع أن يقوم الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان بجولة عربية إسلامية لبحث تفاصيل استراتيجية التحرّك التركي الإقليمي الجديد مع الدول الفاعلة والمؤثّرة في الإقليم.
الحؤول دون امتلاك إيران للسلاح النووي هو الهدف المعلن إسرائيليّاً وأميركيّاً. لكنّ الأهداف غير المعلنة تشمل صناعة تفاهمات إسرائيلية – إيرانية على حساب دول الإقليم بعد تراجع سيناريو إسقاط النظام في إيران. ألا يكفي ذلك لإقلاق أنقرة ودفعها نحو البحث عن بدائل وخيارات عسكرية وسياسية واقتصادية جديدة؟
يقول ترامب، بعد مهاجمة أهمّ مراكز الطاقة النووية في إيران، إنّه فخور بالتعاون والتنسيق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لكنّ ما الذي سيقوله الرئيس التركي لنظيره الأميركي، الذي قرّر تحريك المقاتلات لاستهداف العمق الإيراني ومنح نتنياهو ما يريد، بعدما كان يردّد في نيسان الماضي أنّه يحبّ إردوغان؟ وهل ينصح بيبي “إذا كانت لديه مشاكل مع تركيا بأن يتصرّف بعقلانيّة لحلّها”؟
يردّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، بعد تنفيذ الضربات ضدّ إيران، أنّ “العالم اليوم أفضل بكثير ممّا كان عليه بالأمس”. لكنّ ما يقلق تركيا هو إعلان ترامب شكره للقيادة الإيرانية لإبلاغه المسبق بقرار استهداف قاعدة “العديد” الأميركية في قطر.
يبدو الإصغاء إلى ما يقوله إيهود أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، ضروريّاً هنا من أجل استشفاف الاحتمالات والسيناريوهات. إذ يرى أنّه “على الرغم من أنّ الضربة الأميركية المؤلمة جدّاً قد توفّر فرصة رائعة لإنهاء الحرب في إيران، ونقطة خروج مريحة من الحرب في غزّة، فإنّ نتنياهو، الذي يعرف كيف يبدأ حرباً، يفتقر إلى القدرة والخيال والشجاعة اللازمة لإنهائها”.
“فنّ الحرب” هو عنوان مخطوطة صينية قديمة للجنرال سون تزو، الذي لا تزال أفكاره وتكتيكاته حاضرة حتّى يومنا هذا. وقد عمّمتها القيادة الأميركية على عناصرها إبّان حرب الخليج الثانية، ويُقال إنّ الثنائي ترامب – نتنياهو لجآ إليها مجدّداً قبل أيّام، في سياق خدعة الحرب على إيران: “تظاهر لعدوّك بضعف جيشك حتّى يتمادى في الغرور ويظنّ نفسه الأقوى. إذا كان عدوّك يستريح، فلا تُعطِه الفرصة. واظهرْ له حيث لا يتوقّع. راقبه، واهجم عندما يكون غير مستعدّ”. وهذا سبب إضافي آخر للقلق التركي من عمليّات الكرّ والفرّ في الإقليم.
سمير صالحة — اساس – عموم روسيا