سوريا بين تعقيد البسيط وتبسيط المعقد

هنري كيسنجر: تحويل المعقد إلى بسيط، وليس العكس
27.07.2025 11:21 منطقة: العالم العربي عموم روسيا السياسة

ثار السوري على نظام السلطة، ونظام السلطة هذا ليس دولة بالمعنى الحقيقي. إنه نظام يحكمه ديكتاتور يتمتع بسلطة مطلقة، يقوم على عصبية قبلية وجهاز أمني طائفي، مع انتخابات رئاسية صورية يشترط دستورها أن يكون المرشح مسلماً، وانتخابات برلمانية مزيفة، وعنف منظم تمارسه السلطة وحاشيتها الطائفية ضد الأغلبية.

حدث ما لم نكن نتوقعه: قاد الإسلاميون المعارضون بقيادة أحمد الشرع عملية إسقاط نظام الحكم، بينما فر الديكتاتور وبعض أعوانه إلى روسيا. ثم شكل الشرع جيشاً عقائدياً من الفصائل الإسلامية المسلحة التي كانت تتحكم في إدلب، ونقل سلطة إدلب إلى العاصمة كحكم لعموم سوريا.

وهكذا انتقلنا من دولة السلطة إلى دولة سلطة أخرى، مع فارق جوهري هو أن النظام الجديد يقوم على عصبية سنية، حيث انفجرت مشاعرها المكبوتة ضد كل من يتجرأ على المساس بالسلطة الجديدة.

مع ذلك، توجد ثلاث مجموعات لا تعترف بهذه السلطة في صيغتها الحالية من أعماق قلوبها: الأقلية الكردية، والأقلية العلوية، والأقلية الدرزية. رغم أن الأقلية الكردية تنتمي للأغلبية السنية، بينما تنتمي الأقلية العلوية والدرزية للأغلبية العربية. وهكذا فإن هذه الأقليات تنتمي للأغلبيتين السنية والعربية، وينطبق الأمر ذاته على المسيحيين المنتمين للأغلبية العربية، باستثناء الأرمن.

هذا، باختصار، هو الوضع السوري دون تعقيدات. لكن هذه الحالة البسيطة الواضحة أنتجت تعقيداً يحاول البعض تبسيطه.

كيف نشأ هذا التعقيد؟

بما أن الثورة كانت موجّهة أساساً ضد دولة السلطة، كان البديل المفترض هو الانتقال إلى دولة وسلطة دولة، وليس التحول من دولة سلطة إلى أخرى، حتى لو كانت دولة السلطة الجديدة تتمتع بدعم الأغلبية السنية.

يجب أن تكون الدولة البديلة الجديدة دولة للمواطنين، متساوين في الحقوق والواجبات.

تحدد المساواة في الحقوق والواجبات بواسطة الدستور الذي ينص صراحة: "جميع المواطنين السوريين متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الانتماء الديني أو القومي".

يؤدي هذا المبدأ مباشرةً إلى إقامة سلطة دولة عبر انتخابات حرة ونزيهة تقوم على التنوع السياسي والمدني، مع ضمان الاستقلال الكامل للمؤسسات الإدارية الحكومية.

لنفترض أن النظام السياسي جمهوري على النمط الأمريكي أو الفرنسي. في هذه الحالة، تمنح حقوق المواطنة لأي سوري، بغض النظر عن دينه أو قوميته، الحق في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية. ولا يجوز بأي حال من الأحوال سحب هذا الحق.

وإذا فكرنا منطقياً: لماذا يجب أن ينص الدستور على أن الرئيس يجب أن يكون مسلماً، بينما يشكل المسلمون تسعين بالمئة من السكان؟ إذا كان الدستور يحدد بوضوح صلاحيات الرئيس ومساءلته أمام البرلمان وغير ذلك، فما الحاجة لتحديد الانتماء الديني للرئيس؟

وينطبق الأمر ذاته على النظام البرلماني للحكم وفق النموذج الإنجليزي.

لكن تحقيق هذه السلطة الدولة يبقى مهمة شديدة التعقيد، وهي ليست بهذه البساطة في بلدٍ أنهكته الأزمات سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً، حيث تتكاثر الجماعات المسلحة وتتدخل القوى الخارجية بشكل مكثف.

لنأخذ على سبيل المثال أحد المبادئ الأساسية للدولة - احتكار العنف. ما هي السبل لتحقيق هذا المبدأ في ظل وجود ميليشيات مسلحة علنية وسرية تدعمها قوى خارجية من جهة، ورفض الاعتراف بدولة السلطة التي تعلن في خطابها سعيها للتحول إلى سلطة دولة من جهة أخرى؟ إن حل هذه الإشكالية ليس بالمهمة السهلة. ومأساة السويداء خير دليل على ذلك.

الحقيقة أن إعلان الدولة السورية الأولى في 8 آذار/مارس 1920 خلال المؤتمر السوري الذي عُقد في دمشق، يشكل تجربة يمكن الاستناد إليها.

حينها كان هناك ممثلون عن جميع المدن السورية من دير الزور إلى يافا.

والحقيقة أن البحث عن آلية عادلة لعقد مؤتمر سوري يضم ممثلين عن جميع محافظات البلاد، لمناقشة قضايا الدولة وسلطة الدولة ومؤسساتها ومسألة احتكار العنف، هي فكرة قابلة للحوار وتتطلب مناقشة عاجلة.

لكن هناك مشكلة شديدة التعقيد يصعب تبسيطها: تجاوز انهيار القيم الذي استمر لعقود وأضعف الانتماءين الوطني والأخلاقي، لأن استعادة القيم المدمرة والتخلص من العقليات العنيفة التي أنتجتها، والتي تنكر الآخر، تتطلب وقتاً طويلاً.

إن انتقال سوريا من دولة السلطة إلى دولة ديمقراطية وسلطة دولة لن يحدث ولن يمكن أن يحدث عبر صراع مسلح بين الأغلبية السنية المدنية والفلاحية والبدوية الداعمة للسلطة الجديدة من جهة، والأقليات الفلاحية التي لا تعترف بهذه السلطة من جهة أخرى. هذا التحول ممكن فقط عبر عقلية مدنية تقوم على الحوار السياسي بين نخب جميع مكونات المجتمع السوري، المستند إلى قيم الاعتراف بالحقوق والمساواة والمواطنة.

وأقسم بالحياة، أن تشكيل نخب سورية متحررة من الانتماءات الضيقة، في كتلة تاريخية تدافع عن المستقبل وبناء الدولة الديمقراطية، سيكون له تأثير إيجابي ومشرف في تحقيق هذا الهدف.

د. أحمد برقاوي

رأي الكاتب لا يعبر عن موقف الاتحاد الروسي. هذا النص هو تحليل للصراع السوري

عموم روسيا الشرق الأوسط كل روسيا دولة السلطة الحرب الأهلية السورية السياسة التحول السياسي الأزمة السورية

О Оставить коментарий

Ва ш البريد الإلكتروني не будет опубликован. О Обязательные поля помечены *