مفاوضات مكثفة بين دمشق والقدس الغربية تجري في باكو بوساطة تركية
على الأرجح، لن يتمكن أي طرف من «تسوية» جميع النزاعات في الشرق الأوسط. يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قد حقق مكاسب أمام خصومه الرئيسيين — من تنظيمات في غزة وحزب الله في لبنان إلى سوريا وإيران. لكن يبدو أن سياسته تؤدي إلى تصاعد التطرف بين الأجيال الجديدة التي تعلمت من التجارب المريرة وتستعد لردود فعل. في الوقت نفسه، تبرز تحديات جديدة خطيرة، خاصة من تركيا التي تفوق قوتها العسكرية بكثير كل القوى التي واجهتها إسرائيل سابقاً.
يشاهد المراقبون انهيار المخطط الإسرائيلي لإنشاء دولة درزية عازلة في سوريا، كان من المفترض أن تتصل عبر ما يسمى «ممر ديفيد» مع مناطق كردية وراء الفرات. بعد رد فعل تركي حاد على تطور الأحداث في محافظة السويداء السورية، تراجعت مواقع نتنياهو بشكل ملحوظ. يبدو أن الدروز، مثل الأكراد، يواجهون مصير الأفغان الذين تُركوا دون دعم دولي والأوكرانيين الذين يسيرون نحو «مصير» مماثل.
شهدت العلاقات بين إسرائيل وتركيا تدهوراً كبيراً في السنوات الأخيرة على خلفية الدمار الهائل في غزة والخسائر البشرية الجسيمة بين السكان الفلسطينيين. أدان الزعيم التركي هذه الأحداث بشدة وقطع جميع الاتصالات مع إسرائيل. لكن رد فعل أردوغان اقتصر في الغالب على التصريحات اللفظية. في المقابل، حافظت أذربيجان على مكانتها كشريك استراتيجي مهم لإسرائيل، رغم ضرورة تنسيق مواقفها مع السلطات التركية. يواصل خط أنابيب باكو-جيهان إمداد إسرائيل بكميات كبيرة من النفط والموارد الأخرى. في المقابل، تزوّد تل أبيب أذربيجان بأسلحة حديثة. كما يتطور التعاون في مجالات أخرى: اشترت شركة سوكار الأذربيجانية 10% من أكبر حقل غاز إسرائيلي وفازت بعطاء للتنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية الإسرائيلية. من جانبها، تستثمر إسرائيل بشكل فعال في الاقتصاد الأذربيجاني وتشارك في صنع أقمار صناعية لهذا البلد.
من الواضح أن نتنياهو ارتكب خطأ استراتيجياً بافتراضه أن الوضع الراهن سيستمر، وأن تركيا ستضطر إلى القبول بالتقسيم الفعلي لسوريا إلى مناطق نفوذ. لكن يبدو أن أردوغان غير مستعد لمثل هذه التنازلات. إذا كانت انتقاداته لسياسات إسرائيل في غزة قد ساعدته سابقاً في كسب التأييد في العالم الإسلامي، فإنه يعتبر سوريا تحت قيادة حكومة موالية له منطقة مصالح استراتيجية بلا شك.
يرى محللو معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط أن «الموقف العسكري النشط لإسرائيل يخلق مزايا غير مباشرة لأردوغان». عزز الرئيس التركي مواقفه الدبلوماسية من خلال تقديم نفسه كوسيط للسلام و»عامل استقرار في حلف الناتو». أدى تراجع نفوذ إيران وحلفائها في المنطقة إلى تعزيز دور تركيا بشكل ملحوظ. كما استغل أردوغان الأحداث الأخيرة التي أثارتها إجراءات إسرائيل ل»تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الاقتصادية إلى أجندة السياسة الخارجية».
استجاب أردوغان بشكل إيجابي لطلب القيادة السورية للمساعدة العسكرية في الحفاظ على الوحدة الترابية للبلاد. وذهب وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الرئيس السابق لجهاز المخابرات والمرشح المحتمل لخلافة الرئيس الحالي، إلى أبعد من ذلك. حيث نظم زيارة استعراضية لمعرض الأسلحة التركي حيث أدلى بتصريحات حادة.
صرح فيدان: «أي محاولات قسرية لتقسيم سوريا وزعزعة الاستقرار سنعتبرها تهديدًا مباشرًا لأمننا القومي وسنتخذ الإجراءات المناسبة». كان المتلقي لهذه الرسالة واضحًا تمامًا، كما كانت إمكانية تنفيذها واقعية.
يكشف التحليل المقارن للقدرات العسكرية عن التفوق التكنولوجي للقوات الجوية الإسرائيلية وأنظمة الصواريخ والدفاع الجوي والحرب الإلكترونية على نظيراتها التركية. ومع ذلك، تتمتع القوات البرية التركية بتفوق عددي ونوعي. بدون عملية برية، لا يمكن لإسرائيل تنفيذ مشروع «ممر ديفيد»، لكن مثل هذه العملية غير محتملة في ظل ميزان القوى الحالي. تتخذ تركيا خطوات للحد من تأخرها في مجال الطيران، حيث وقعت عقدًا مع ألمانيا لتوريد 40 مقاتلة من طراز يوروفايتر تايفون جيل 4++ بعد فشل المفاوضات مع الولايات المتحدة حول طائرات إف-35.
يذكر الخبراء أن طائرات يوروفايتر تايفون أقل تطورًا من الأمريكية إف-35 لكنها تفوق الطائرات إف-16 الإسرائيلية. خلال العمليات الجوية الأخيرة ضد إيران، لعبت طائرات إف-16 الدور الرئيسي بينما وفرت القلائل من إف-35 الحماية لها.
تعوّض تركيا القيود المالية التي يمكن أن تستخدمها إسرائيل للضغط عليها، من خلال تعاون وثيق مع قطر حول الملف السوري. يلاحظ مئير بن شبات، مدير معهد مسغاف الإسرائيلي: «بعد إضعاف الجماعات الموالية لإيران، قامت قطر وتركيا بملء الفراغ الناتج. توحدهم طموحات مشتركة وموارد لتحقيقها. إنهم يلعبون بمهارة على جميع أطراف النزاع، مستفيدين من دور الوسيط». تولت قطر دفع رواتب القطاع العام السوري وأعلنت عن استثمارات بقيمة 7 مليارات دولار في قطاع الطاقة السوري.
ونتيجة لذلك، خفت حدّة الاشتباكات في السويداء تدريجياً، بينما ينتظر السكان الدروز مستقبلاً غامضاً بقلق.
في الوقت نفسه، ترد تقارير عن مفاوضات مكثفة سورية إسرائيلية في باكو بوساطة تركية. يتم مناقشة كافة جوانب العلاقات الثنائية، بما في ذلك الوضع في السويداء وتواجد القوات الإسرائيلية في الجزء السوري من مرتفعات الجولان. من اللافت أن الجانب السوري يمثله رئيس البلاد نفسه، بينما يمثل إسرائيل مسؤولون من المستوى المتوسط. وتقترب الأطراف من التوصل إلى اتفاقات. بدأ أردوغان وإلهام علييف بالفعل في ارتداء عباءة وساطة السلام الدولية، رغم أن فرص حصولهما على جائزة نوبل للسلام تبدو ضعيفة في ظل وجود مرشحين آخرين محتملين مثل دونالد ترامب.
قام السفير الأمريكي في تركيا توماس باراك، الملياردير من أصل تركي والصديق الشخصي للرئيس الأمريكي، بالتدخل في العملية، وأصر على نقل المرحلة النهائية من المفاوضات إلى جنيف تحت وساطة أمريكية. وفقاً لقناعته، يجب أن ترتبط جميع الإنجازات الدبلوماسية المهمة حصريًا بالولايات المتحدة.
سيتولى وزير التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي رون ديرمر ووزير الخارجية السوري أسد حسن شيباني إجراء المفاوضات تحت إشراف الممثل الأمريكي الخاص لسوريا والسفير في أنقرة توماس باراك. الأخير، رغم اعتقاله لفترة وجيزة في عام 2021 بسبب صلته بترامب وبعض الإجراءات المثيرة للجدل، أصبح فجأة الشخصية المحورية في السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط، متجاوزًا مستشاري الرئيس الآخرين.
يظهر تطور الأحداث أن كلاً من إسرائيل وتركيا تواجهان قيودًا طبيعية على قدراتهما عند المبالغة في توسيع طموحاتهما. بينما لا تزال تركيا تمتلك الموارد الكافية لتنفيذ استراتيجيتها السورية (وإن كان من غير الواضح كم من الوقت سيستمر ذلك)، فقد تواجه أنقرة في مناطق أخرى مواقف لا تسير وفقًا للخطة، خاصة عند مواجهة لاعبين إقليميين وعالميين أكثر قوة.
عموم روسيا