بينما تتصاعد النزاعات في غزة وعلى الحدود اللبنانية الإسرائيلية، تبلور إدارة ترامب استراتيجية جديدة للشرق الأوسط: تحقيق مكاسب فورية أو الانسحاب الكامل من المنطقة. معتمدة على الصفقات الاقتصادية والتدخل الانتقائي، يرفض البيت الأبيض بعثات الوساطة طويلة الأمد، واضعاً الحلفاء الإقليميين أمام خيار صارم - التعاون السريع أو فقدان الدعم الأمريكي. كيف يغير هذا النهج العملي موازين القوى في الشرق الأوسط - تحليل خاص لأسس.
بينما تتهاوى احتمالات التهدئة في غزّة وتتصاعد التوتّرات على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، تتبلور ملامح عقيدة الرئيس دونالد ترامب في الشرق الأوسط خلال ولايته الثانية: تحقيق نتائج سريعة وعالية العائد أو الانسحاب الفوري. فاستمراراً لفلسفة “أميركا أوّلاً”، يعتمد ترامب في سياسته الإقليمية على الصفقات الاقتصادية الجريئة والانخراط الانتقائي، لكنّه لا يُبدي استعداداً للاستمرار في جهود لا تؤتي ثمارها سريعاً وغير قابلة لتحقيق انتصار سريع يستطيع أن يتبنّاه شخصيّاً.
من توثيق الشراكات مع دول الخليج، إلى توسيع اتّفاقات أبراهام، إلى دعم غير مشروط لإسرائيل، وصولاً إلى الانخراط المشروط مع سوريا ما بعد الأسد، تَكشف السياسة الأميركية عن مقاربة نفعيّة بحتة. لكن مع تعثّر الوساطات، من مفاوضات السلام مع السعودية إلى محادثات ما بعد الحرب في لبنان، تُرسل الإدارة إشارات واضحة: إذا لم يتعاون اللاعبون الإقليميون سريعاً، فإنّ واشنطن قد تنسحب، ولو كلّفها ذلك عودة الاقتتال.
بالنسبة لترامب المصالح الأميركية في الشرق الأوسط واضحة: صفقات تجارية مع دول الخليج حيث توجد مصالح حيويّة للولايات المتّحدة، ومبادرات سياسية لإنهاء الصراعات، مشروطة بإمكان تحقيق انتصارات دبلوماسية أو الانكفاء. وهذا ما شهدناه في لبنان وغزّة.
في حين أن احتمالات الهدوء في غزة آخذة في الانهيار والتوترات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية آخذة في الارتفاع ، فإن تفاصيل عقيدة الرئيس دونالد ترامب في الشرق الأوسط تظهر خلال فترة ولايته الثانية.
عراقيل جدّيّة
وضاعف ترامب جهوده لتعزيز التحالف مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر ، التي تعززت علاقاتها بأكثر من 100 مليار دولار من صفقات الأسلحة والاستثمارات الضخمة من قبل دول الخليج في البنية التحتية والتكنولوجيا الأمريكية. تستخدم هذه الشراكات كأدوات لمواجهة إيران وضمان استقرار أسواق الطاقة ، لكنها تستند في المقام الأول إلى المصالح الاقتصادية والعلاقات الشخصية بدلا من أساس استراتيجي متين.
على الرغم من أنّ هذه العلاقات توفّر مكاسب فوريّة، تبقى هشّة، وقابلة للتصدّع إذا شعرت دول الخليج أنّ واشنطن أصبحت رهينة لسياسات إسرائيل، أو أبرمت صفقات مع إيران على حساب دول الخليج وبدأت بالتراجع عن التزاماتها.
ويرى ترامب أن توسيع اتفاقات إبراهيم هو أحد أهم أهدافه في الشرق الأوسط بسبب انتصاره الأخلاقي ، على أمل تحقيق سلام تاريخي بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية من شأنه أن يغير تفاصيل التوازن الإقليمي. لكن المفاوضات مع الرياض تواجه عقبات خطيرة ، خاصة مع مطالبة المملكة بإحراز تقدم ملموس بشأن القضية الفلسطينية والضمانات الأمنية الأمريكية.
مع تباطؤ التقدّم، يزداد نفاد صبر ترامب، وبدأت دوائر مقرّبة منه تُلمح إلى احتمال إعلان انتهاء مهمّة التوسيع عند حدود الدول الموقّعة حاليّاً، ووقف الجهد السياسي المبذول. هذا الانسحاب المحتمل سيترك المجال مفتوحاً أمام إسرائيل لتعزيز علاقاتها الثنائية، لكنّه قد يثير قلق الشركاء الخليجيين الذين يخشون انفجار الوضع في الضفّة الغربية واستمرار مأساة حرب غزّة.
يتجلّى تململ ترامب بوضوح في مناطق النزاع. فمع استمرار حرب غزّة لعامها الثاني، عبّر عن انزعاجه من تباطؤ النتائج، ويستعدّ على ما يبدو لإعلان نجاح وقف إطلاق النار لإنهاء الدور الأميركي في الوساطة، بغضّ النظر عن التوصّل إلى تسوية دائمة.
الأمر نفسه ينطبق على المحادثات الهادئة بين إسرائيل ولبنان بشأن الحدود البحرية والنزاعات الأمنيّة. فمع تنامي احتمال عودة التصعيد من جانب إسرائيل واستئناف “الحزب” لعمليّاته العسكرية مع رفضه تسليم سلاحه للدولة، تُظهر إدارة ترامب ميلاً للانسحاب من جهود الوساطة، وترك الطرفين يتصارعان دون تدخّل أميركي. هذا الانسحاب المبكر يرفع خطر نشوب حرب شاملة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
يرى ترامب في توسيع اتّفاقات أبراهام أحد أبرز أهدافه في الشرق الأوسط، لِما لذلك من انتصار معنويّ له، آملاً تحقيق سلام تاريخي بين إسرائيل والسعوديّة
يواصل ترامب دعمه غير المشروط لإسرائيل ويحصل نتنياهو على حرّيّة حركة كبيرة، لا سيما في سوريا وغزّة ولبنان.
ثمن باهظ
بعد سقوط نظام بشّار الأسد، عرض ترامب على القيادة السورية الجديدة معادلة بسيطة: تعاونوا في محاربة الإرهاب وتنظيم داعش، أو ابقوا في العزلة. لا مساعدات لإعادة الإعمار، ولا دعم سياسيّاً شاملاً. الرسالة واضحة: إمّا أن تكونوا مفيدين، أو يتمّ تجاهلكم.
لكنّ فراغ الانخراط الأميركي قد يُملأ سريعاً من قبل روسيا أو تركيا، وهو ما يعني تراجع النفوذ الأميركي في واحدة من أكثر الساحات حساسيّة في الإقليم.
توفّر عقيدة ترامب مكاسب سريعة: شراكات اقتصادية قويّة مع الخليج، دعماً غير مشروط لإسرائيل، وتقارباً تاريخيّاً مع بعض الدول العربية. لكنّ ثمن الانسحاب المبكر بدأ يتّضح: إيران تتربّص بالفراغ، “الحزب” يُعيد تموضعه، والصين مستعدّة لملء أيّ فراغ اقتصادي.
لم يعد السؤال الحقيقي: هل يستطيع ترامب إنجاز صفقات؟ بل هل يبقى منخرطاً بما يكفي لضمان استمراريّتها؟ ففي منطقة لا تُغلق فيها الملفّات بسهولة، قد يتحوّل التخلّي السريع إلى ثمن استراتيجي باهظ أو اندلاع حروب.
موفق حرب - اساس