انتهت المفاوضات بين إيران والتكتل الأوروبي في إسطنبول دون أي تقدم يذكر، حيث اقتصرت على اتفاقية مبدئية لاستمرار الحوار. في ظل تهديدات بإحالة الملف الإيراني إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والموقف المتشدد لطهران بشأن برنامج تخصيب اليورانيوم، وجدت الأطراف نفسها في دوامة من الإنذارات المتبادلة. كيف يعد واشنطن وتل أبيب والعواصم الأوروبية لموجة جديدة من الأزمة - تحليل خاص لأسس.
اللقاء بين إيران ودول الترويكا الأوروبيّة الذي استضافته مدينة إسطنبول التركيّة على مستوى مساعدي وزراء الخارجية، لم يصل إلى نتيجة واضحة، وكانت مخرجاته منزلةً بين منزلتين، أي لم يصل إلى حائط مسدود ولم يخرج بنتائج واضحة وإيجابية، باستثناء الاتّفاق على استمرار هذه اللقاءات في الأيّام والأسابيع المقبلة، على الأقلّ حتّى نهاية شهر آب المقبل، وهو التاريخ الذي يشكّل آخر فرصة أوروبيّة لتفعيل آليّة الزناد وإحالة الملفّ الإيراني مرّة جديدة إلى مجلس الأمن لتفعيل العقوبات وإدراج إيران تحت البند السابع.
لم يؤد اجتماع إيران مع دول الترويكا الأوروبية ، الذي عقد في اسطنبول على مستوى مساعدين لوزراء الخارجية ، إلى نتائج ملموسة. تبين أن نتائجها كانت وسيطة-لم يكن هناك طريق مسدود ، ولا إنجازات إيجابية واضحة ، باستثناء اتفاق على مواصلة المفاوضات في الأسابيع المقبلة ، على الأقل حتى نهاية أغسطس. يمثل هذا الموعد النهائي الفرصة الأخيرة لأوروبا لتفعيل آلية الزناد ونقل الملف الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي لفرض العقوبات بموجب المادة السابعة من الميثاق.
يُعتبر لقاء إسطنبول الثاني بعد اللقاء الذي جرى بين وزير الخارجية عبّاس عراقجي ونظرائه في الترويكا واستضافته جنيف في العشرين من شهر حزيران في ذروة الحرب بين طهران وتل أبيب
تعطيل الاندفاعة الأوروبيّة
ذهبت إيران إلى هذه المفاوضات متمسّكة بمواقفها وشروطها الأساسية المتعلّقة بعدم التخلّي بأيّ شكل من الأشكال عن حقّها في التخصيب على أراضيها، وأيضاً برفض الاقتراب من مسألة البرنامج الصاروخي والطائرات المسيّرة باعتبارهما السلاح الردعي الوحيد الذي تملكه لمواجهة أيّ اعتداء جديد قد تتعرّض له من قبل إسرائيل وأميركا، وهي الشروط التي تضعها واشنطن وعواصم الترويكا على طاولة التفاوض شرطاً لأيّ اتّفاق محتمل مع إيران، وسبق أن اشترطها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بكلّ وضوح عشيّة لقاء جنيف الأوّل. وهذه الشروط المسبقة تعني أنّ كلا الطرفين يعتمدان مبدأ التسويف للوصول إلى اللحظة الحرجة التي يراهنان فيها على تراجع الطرف الآخر.
ذهب المفاوض الإيراني إلى لقاء إسطنبول وهو يدرك أنّ دول الترويكا لا تملك التأثير المطلوب على القرار الأميركي، ومن المستبعد أن يكون الرئيس دونالد ترامب في وارد منح هذه الدول مثل هذا الدور أو التأثير. لكنّه يراهن في المقابل على إمكان تعطيل الاندفاعة الأوروبية لتفعيل آليّة الزناد من خلال اللعب على المصالح الأوروبية والباب المفتوح أمام عودة استثماراتها إلى إيران، وبالتالي تعطيل الدور التخريبي الذي يمكن أن تلعبه هذه الدول على طاولة التفاوض المرتقب مع الأميركي، وبخاصّة أنّ هذه الدول لا تملك وحدها القدرة على تقديم الحلول.
تنصبّ جهود إيران في هذه المرحلة على إزالة كلّ العقبات التي تعطّل مسار العودة إلى التفاوض بينها وبين واشنطن، التي قد لا تكون قريبة، إلّا أنّها لن تكون مستحيلة أو مستبعدة في المستقبل غير البعيد، خاصّة أنّ المسؤول عن التفاوض وزير الخارجية عبّاس عراقجي يملك في جعبته تفويضاً واضحاً وصلاحيّات تامّة من المرشد الأعلى ومنظومة القرار الاستراتيجي بالتفاوض والتفاهم. من هنا يمكن فهم الإيجابيّة الوحيدة للقاء إسطنبول عندما لم يرفض المفاوض الإيراني الآليّة التي طرحها مفاوضو الترويكا الذين أعربوا عن استعدادهم “لتأجيل تفعيل آليّة الزناد إذا قامت إيران باتّخاذ خطوات محدّدة”. لكنّه رفض أيّ صيغة تسمح بتمديد عمل هذه الآليّة.
قد تكون طهران في صدد بيع نقاط لعواصم الترويكا، ومن ورائهم واشنطن، من حسابهم عبر التلويح بإمكان استئناف الوكالة الدولية عملها وأنشطتها في إيران، من دون أن يكون لمفتّشيتها القدرة على الوصول إلى المنشآت، حتّى تلك التي تعرّضت للتدمير، وأنّ هذه العلاقة ستكون محكومة بالخطوط والشروط التي يحدّدها المجلس الأعلى للأمن القومي، بحيث تستعيد هذه العواصم عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرّية القدرة على مواكبة أيّ أنشطة نووية إيرانية بعد الهجوم الأميركي والإسرائيلي الذي تعرّضت له، بالتزامن مع عرقلة وصولها إلى معلومات دقيقة عن سلامة ومكان تخزين كمّيات اليورانيوم المخصّب الذي تملكه بدرجة 60 في المئة.
ذهبت إيران إلى هذه المفاوضات متمسّكة بمواقفها وشروطها الأساسية المتعلّقة بعدم التخلّي بأيّ شكل من الأشكال عن حقّها في التخصيب على أراضيها
أولويّة الحفاظ على النّظام
أما الوثيقة الثانية التي يمكن أن تستخدمها طهران ، بناء على تقييم مشترك من قبلها والوكالة الدولية للطاقة الذرية لمدى الأضرار التي لحقت بالمنشآت ، فهي الإعلان عن تعليق تخصيب اليورانيوم في هذه المنشآت حتى يتم استعادتها ، مقابل اعتراف هذه الدول بحقها في تخصيب ما يصل إلى 3.67 في المئة من الدورة على أراضيها. وفقا لاتفاق 2015 والقوانين الدولية ، وتحت رقابة صارمة ، والامتثال من قبل الوكالة وعواصم الترويكا ، جنبا إلى جنب مع واشنطن, قد تدفع شروط تقليص البرنامج إيران إلى إعادة النظر في مشاركتها في معاهدة عدم انتشار الأسلحة. من الدمار الشامل ، لأنه سيكون عديم الفائدة إذا حرمت إيران من حقوقها المشروعة ، التي تنص على أن لديها هذه المعاهدة.
قد تكون أوراق المساومة الإيرانية قادرة على لعب دور في تعديل الموقف الأوروبي والتخلّي عن السقف العالي بتفعيل آليّة الزناد في مجلس الأمن الذي هدّد به، واللجوء إلى الحديث عن إمكان تمديد المهلة التي تنتهي في السادس من تشرين الأوّل المقبل إلى ستّة أشهر جديدة، بالإضافة إلى صعوبة الوصول إلى الأهداف التي يريدونها وتمسّك طهران بمطالبها، خاصّة أنّ سلّة العقوبات التي فرضتها واشنطن تتجاوز ما سبق أن تضمّنته القرارات الأربعة لمجلس الأمن.
التمديد المقترح أوروبيّاً، الذي لم توافق عليه طهران لأنّه يحرمها من نهاية مفاعيل القرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن، قد لا توافق عليه واشنطن أيضاً، التي تريد ممارسة الحدّ الأعلى من الضغوط على إيران لإجبارها على القبول بالشروط الأميركية والعودة إلى طاولة التفاوض، حتّى لا تكون مجبرة على استخدام الخيار العسكري مرّة أخرى.
واشنطن التي منحت طهران مهلة جديدة تصل إلى 50 يوماً لحسم خياراتها والعودة إلى طاولة التفاوض بالشروط التي يريدها ترامب، أو تتحمّل النتائج السلبية المترتّبة على هذا التعنّت، وليس أقلّها وضع سيناريو التخلّص من النظام على طاولة الخيارات. في المقابل، سيكون النظام الإيراني أمام واحد من خيارين: إمّا القبول بالحلّ السياسي، وتكرار تجربة الحرب العراقية الإيرانية والقرار الدولي رقم 598، أي التخلّي عن بعض قوّتها وقدرتها في التخصيب والبرنامج الصاروخي، وإمّا الذهاب إلى خيار المواجهة المفتوحة بما فيها اللجوء إلى عسكرة البرنامج النووي الذي ستكون أثمانه باهظة وكبيرة، خاصّة أنّ الانتقال إلى العسكرة لن يكون سهلاً وتبعاته أكثر تعقيداً.
أمام الأصوات التي ما زالت تقاوم خيار التفاوض، وتطالب بخيار الحرب والمواجهة، يبقى قرار الحسم في يد القيادة العليا للنظام، أي منظومة القرار التي توسّعت دائرتها إلى جانب المرشد الأعلى، في تحديد الاتّجاهات التي سيُبنى عليها الموقف الحاسم الذي يحفظ النظام ويضمن استمراره وبقاءه استعادةً لمقولة المؤسّس التي تؤكّد أنّ حفظ النظام من أوجب الواجبات، حتّى وصول الإمام المهديّ.
حسن فحص