لا سلام دون سوريا، ولا حرب دون مصر. بعد كامب ديفيد (1978) وانهيار الاتحاد السوفيتي (1990)، انتقل الثقل الجيوسياسي إلى السعودية.
سادت لعقود معادلة في الشرق الأوسط مفادها أنّه لا يمكن أن تصنع سلاماً في الشرق الأوسط دون سوريا، ولا يمكن أن تخوض حرباً دون مصر. بالطبع دخول مصر مسار كامب ديفيد عام 1978، والتوصّل إلى اتّفاقات سلام مع إسرائيل، وانهيار الاتّحاد السوفيتي عام 1990، ساهمت بشكل أساسي في انتقال الثقل الجيوسياسي في المنطقة إلى المملكة العربية السعودية.
في العقد الأخير، تمكّنت المملكة العربية السعودية بفضل سياستها الخارجية المتوازنة التي يمسك بمفاتيحها وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان، من مراكمة الأوراق الجيوسياسية، لتتكرّس معادلة جديدة في المنطقة هي: لا يمكن قيام شرق أوسط جديد أو نظام إقليمي جديد دون المملكة العربية السعودية. أيقن الإسرائيليون هذه الحقيقة على مضض في زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمملكة في أيّار الماضي، حين استجاب هذا الأخير لطلب وليّ العهد بن سلمان، فالتقى الرئيس السوري أحمد الشرع، وأعلن قراره برفع العقوبات المفروضة على سوريا.
وأيقنوا أيضاً أنّ هذا التغيّر الجذري في موقف ترامب من الوضع في سوريا يعكس الثقل الجيوسياسي الذي تمثّله المملكة في مستقبل المنطقة، وأنّ هذا التطوّر لن يطوي طموحاتهم إلى تقسيم سوريا فحسب، بل قدرتهم على الإمساك بمفردهم بمفتاح تغيير الشرق الأوسط وإعادة هيكلة التحالفات فيه.
خلال وجود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، للبحث في الوضع الإيراني وحرب غزّة وغيرهما من الملفّات، يشهد شاهد من أهل إسرائيل كما يُقال. إذ تنظر نخبة إسرائيلية إلى أنّ احتمال دخول المملكة مفاوضات إنهاء الحرب في غزّة بعد حصول وقف إطلاق النار سيكون بمنزلة التحوُّل في قواعد اللعبة التي تقود برأيهم إلى “الصفقة الكبرى” التي يسعى إليها الرئيس ترامب.
الموقف السّعوديّ يفتح الطّريق إلى إنهاء حرب غزّة
القاسم المشترَك الذي جمع بين “طوفان الأقصى” الذي كانت تقف وراءه إيران، والحرب التي لا نهاية لها على غزّة بقيادة نتنياهو وحكومته، هو ضرب المسار السياسي الذي كانت تقوده المملكة العربية السعودية على أساس حلّ الدولتين. نتنياهو الذي رفض باستمرار الحديث عن هذا الأمر، لاقاه وزير خارجية إيران السابق حسين أمير عبداللهيان الذي قُتل في حادثة تحطّم طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بتصريح قال فيه:
إسرائيل وإيران متّفقتان على أمر واحد وهو رفض حلّ الدولتين.
ومن العبر التي يمكن استخلاصها بعد أقّل من سنتين من الحرب على غزّة، حاجة الفلسطينيين والإسرائيليين إلى المملكة ودورها في إخراج المسار الذي يؤدّي إلى نهاية النزاع، مع الاحتفاظ بهامش من مناورات يمكن أن يخفيه نتنياهو لإفشال أيّة صفقة تؤدّي إلى نهاية النزاع.
يمكن اعتبار ما كتبه داني زكان في صحيفة إسرائيل هيوم بعنوان: “هل شارفت الحرب في غزة على الانتهاء؟ الموقف السعودي الذي أدّى إلى تغيير قواعد اللعبة”، بمنزلة تحوّل كبير في فهم أهمّية الدور السعودي وموقع المملكة في المعادلة الجديدة، لا سيما بعد حرب الاثني عشر يوماً بين إسرائيل وإيران. كتب زكان:
يمكن اعتبار ما كتبه داني زكان في صحيفة إسرائيل هيوم بعنوان: “هل شارفت الحرب في غزة على الانتهاء؟ الموقف السعودي الذي أدّى إلى تغيير قواعد اللعبة”، بمنزلة تحوّل كبير في فهم أهمّية الدور السعودي وموقع المملكة في المعادلة الجديدة، لا سيما بعد حرب الاثني عشر يوماً بين إسرائيل وإيران. كتب زكان: “تشير جميع المؤشّرات إلى احتمال التوصّل إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزّة في الأيّام القريبة المقبلة، مع اقتراب زيارة نتنياهو لواشنطن. يتضمّن هذا الاتّفاق إطلاق سراح ما لا يقلّ عن نصف المحتجزين.
لكنّ الأهمّ من هذا هو ازدياد احتمال أن يؤدّي هذا الاتّفاق إلى إنهاء الحرب بالكامل، وذلك بفضل تغيير جوهري حدث في الأسابيع الأخيرة. التغيير المشار إليه هو في موقف السعودية ممّا يجري في المنطقة، ومن إسرائيل بشكل خاصّ.
وفقاً لمصادر عربية وأميركية، ستشارك السعودية بشكل واسع في المفاوضات التي ستنطلق بعد وقف إطلاق النار، بهدف إنهاء الحرب. وستشارك المملكة أيضاً في إعادة إعمار القطاع من جوانب متعدّدة، وتسعى إلى ربط اتّفاق إنهاء الحرب بترتيبات أشمل تضمّ مستقبل الضفّة الغربية والنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، وفي نهاية المطاف، “الصفقة الكبرى” التي طرحها ترامب وتتضمّن توسيع اتّفاقات أبراهام لتشمل دولاً عربية وإسلامية إضافية، على رأسها السعودية”.
المملكة غيّرت الموجة الإسرائيليّة في سوريا
منذ سقوط نظام الأسد في سوريا في كانون الأوّل الماضي، وإمساك الرئيس أحمد الشرع بالسلطة في دمشق، لم يتوقّف الإسرائيليون عن رسم السيناريوهات المتعلّقة بمستقبل سوريا. بعد تدمير أصول الجيش السوري واحتلال المنطقة العازلة والتمركز على مرتفعات جبل الشيخ، تراوحت هذه السيناريوهات بين تقسيم سوريا إلى أربع دويلات، سنّية، كردية، علويّة ودرزيّة في الجنوب السوري، أو إقامة نظام فدرالي، أو تشجيع الدروز والأكراد على الانفصال وإقامة حكم ذاتي.
وذهب عدد من النخب الإسرائيلية العسكرية إلى طرح فكرة منطقة نفوذ بعمق 65 كلم في مواجهة ما كان يسمّونه خطر المحور السنّي بقيادة تركيا وقطر، الذي حلّ برأيهم مكان المحور الشيعي الذي كانت تقوده طهران.
تغيّرت هذه الموجة كلّيّاً بعد زيارة ترامب للمملكة العربية السعودية ولقائه الرئيس السوري أحمد الشرع ورفع العقوبات عن سوريا بناء على طلب وليّ عهد المملكة. شهدت قواعد اللعبة تحوُّلاً كبيراً، واختفى فجأة الكلام عن المحور السنّي، وعن مشاريع الشرق الأوسط الجديد من البوّابة السورية، ولم يعد أحد يقرأ عن سيناريوهات التقسيم والانفصال.
بالطبع، يجب أن لا ننام على حرير، لكنّ المؤشّرات التي تظهر حاليّاً في إسرائيل تشير إلى محاولة النزول عن الشجرة والذهاب إلى نوع من الواقعية السياسية. إذ لا يجري الحديث عن السلام بين سوريا وإسرائيل، بل عن اتّفاق على مجموعة من الترتيبات الأمنيّة.
في هذا الإطار، كتب إيهود ياعري على موقع القناة 12 العبرية مقالة بعنوان “التسوية المرتقبة بين إسرائيل وسورية ليست اتّفاق سلام”. جاء في المقالة: “بعكس ما قد يرغب جزء منّا، من المرجّح ألّا نتمكّن في العام المقبل من قضاء عطلة على ضفاف نهر الفرات في سورية، أو تناول الحمّص في دمشق. فالمباحثات الجارية حاليّاً التي تتركّز أساساً بين السوريّين والأميركيّين تدور حول اتّفاق وقف الأعمال العدائية… ما يجري الحديث عنه هو بلورة ترتيبات أمنيّة جديدة على الحدود في الجولان، أي “تجديد صيغة” اتّفاق فصل القوّات العائد إلى سنة 1974، الذي وُقّع مع انتهاء حرب “يوم الغفران” (حرب أكتوبر).
علاوة على قيام تعاون استخباريّ – أمنيّ كجزء من الصراع الذي تخوضه الدولتان ضدّ “الحزب” وإيران، التي تُواصل التآمر ضدّ سورية، وتعمل على إدخال خلايا “إرهابية” إلى جنوب البلد… إلى جانب العمل الأمنيّ، من المتوقّع أن تعترف إسرائيل بأنّ مزارع شبعا هي أراضٍ سوريّة.
الخطوة التي من شأنها تقويض “الحزب” الذي يشكّل النضال من أجل تحرير هذه الأرض إحدى أهمّ الذرائع لحربه ضدّ إسرائيل… يجري الحديث أيضاً عن تحويل جبل الشيخ بجزءيه إلى محطّة كبيرة للتزلّج”
أضاف الكاتب: “حتّى الآن، لا أحد يعلم كيف ستتطوّر المحادثات، لكن يبدو أنّ حدوثها بحدّ ذاته يُعتبر إنجازاً، الأمر الذي كان يبدو خياليّاً قبل بضعة أشهر”.
المملكة ضامنة للحقوق الفلسطينيّة والسّوريّة
بدأت تتغيّر قواعد اللعبة في مجرى الحرب في غزّة وفي النظرة الإسرائيلية لمستقبل سوريا، ولم يكن ليحدث هذا التغيّر لولا صمود المملكة على موقفها بعدم تقديم ورقة التطبيع لإسرائيل بدون ثمن سياسي تقرّ به القيادة الحاليّة في تل أبيب. زيارة نتنياهو لواشنطن ولقائه الرئيس الأميركي ترامب، تكشف عن معالم المرحلة المقبلة، يمكن القول إنّ الدور السعودي يبقى الضمانة الأساسيّة لحقوق الفلسطينيين المشروعة في الضفّة والقطاع والقدس الشرقية.
وإنّ انغماس المملكة في الكبيرة والصغيرة في تطوّرات الوضع يعطي المناعة لهذا البلد ويشير إلى أنّه لن يكون لقمة سائغة في فم نتنياهو. لا يخرج لبنان عن هذه القاعدة بشرط أن يسمع مَن يجب أن يسمع إلى النصائح السعودية، وأن يدرك “الحزب” أنّ تقرير مستقبل لبنان لم يعد في أيدي نظام طهران الذي تنتظره تحدّيات داخلية كبيرة.
وليد صافي — أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانيّة